رَجُلٌ لا يَنامُ
وكيف ينام ويخامر جفنيه الوَسَنُ مَن تتوالى طرقات المعذَّبين من أمته على نافذة روحه...؟ وكَيفَ يَغْمُضُ له جَفْنٌ مَنْ يُوقِرُ سَمْعَهُ أَنّاتُ التائهين في بيداء الضلال من أمته...؟ وكيف يأوي إلى الفراش ناعمَ البال وقريرَ العين مَنْ قلبه مُوجَعٌ بصرخات المسحوقين حتى العظم من أبناء جلدته...؟
وكيف يطيب له الرقاد مَنْ يرى إيمانَ أمَّته في خطر، وإسلام شعبه تعمل فيه معاول الهدم والتخريب...؟
وكيف يُسيغُ حُلْوَ المنام مَنْ يرى أبناء وطنه وهم يَغَصُّونَ بمرارات الذُّل ويقتاتون على فُتَاتِ الغرباء...؟
وكيف لا يأسى ويجافيه النَّومُ، ويذوب قلبه كمداً، مَنْ يرى ما بَنَتْهُ الأُمَّةُ من أمجاد بالجهد والعرق والدماء وهي تتهدَّم لَبِنَةً من بعد أخرى...؟
متى ينام...؟ وكيف ينام...؟ مَنْ يرى أمَّةً قامت قيامتها قبل يوم القيامة، وانطفأَ تاريخها قبل إنطفاء تاريخ العالم...؟ أيَّةُ وِسَادَةٍ ولو كانت من صوان يمكن أن تحتمل ذهناً تثقله الأفكار، وتتلاطم فيه مشاريع انبعاث أمَّةٍ من موتها من جديد...؟ وكيف لا يتجافى جنباه عن المضاجع وفي روحه بَحْرٌ من دُرَرِ القرآن يمكن أنْ تغير العالم وتقلبه رأساً على عقب لو قُدِّرَ لها مَنْ يفهمها...؟
هذا هو الشيخ فتح الله كولن... مُمَزِّقُ الظلام... ومُهْتِكُ أستار النَّوم... إنَّه قُوَّةُ إدراك... وصحوة إيمان... وطاقة حياة... وبطل كفاح... وعبقري فكر... ومُلْهِبُ أذهان... ومُفَجِّرُ قلوب... والباحث عن جوهر الإنسان في مناطق نائية من الروح... كلماته مذاب روح... وإشاراته نِثَارُ قلب... إنَّه النفير الصارخ الذي يوقظ موتى الإيمان...
ومَنْ يراهن -من كتَّاب العصر- على مناحي الضعف الإنساني ويَعُدُّهُ الأصلَ فيه، فأنه يراهن على قوة الإنسان وعظمته ومجده وشرفه، وَمنْ يُرِدْ منهم أن ينفي الحسَّ والشعور عن الكون، فإنَّ الكون عنده كيَانٌ حيٌّ يطفح بالعقل والحسِّ والشعور.
إنه يراهن على أصالة الطبائع البشرية التواقة إلى الصلاح، والمشتاقة إلى العلاء، حتى ليصعب على المرء أن يتوقع من أصحابها الضلال أو الزيغ مهما بلغت دواعيهما من القوة والإغراء.
إننا لو خلينا سبيل هؤلاء الشباب الأطهار -كما يقول الشيخ- ودعوناهم يضربون في الأرض على هدىً حاملين إيمانهم في قلوبهم لأتوا بالعجب العجاب، ولغدوا عنصر نور، ومصدر إشعاع بعد أن كانوا مجردَ موضعٍ قابل للنور، ومُسْتَقْبِلٍ له.
وهم إذا حَلَّوا في مكان، وأَلقَوا عصا ترحالهم في موطن وضعوا قلوبهم فيه، وجعلوه ينبضُ بالودِّ والحنان، والمحبة والاخلاص، إنَّ سجيةً فيهم أنْ يُحِبُّوا وأَنْ يُحَبُّوا من دون سعي ولا تصَنُّع، إنهم قادرون على أنْ يخلبوا ألبابَ مَنْ يلتقونهم بعفوية نقية ومن غير قصد، إذا ساروا سارت في ركابهم الحكمة، وسبقتهم العزيمة، وألهبَ حَمَاسَهُمُ الإيمانُ، وجال معهم حيث يجولون، وصال معهم حيث يصولون، يستقون من أزكى ينابيع عالمي الغيب والشهادة. فيمضون مع العقل إلى آخر مداه، إلاّ أنهم لا يقفون عنده بل يتجاوزونه وَيْعلُونَ فوقه مع حنينهم الروحي الذي لا يقف حتّى الأبدية والخلود.
إنّ الحنين إلى الخلود شيءٌ فطري في النفوس، والفطرة لا تكذب أبداً، وقد حذَّر الشيخ فتح الله أولئك الذين يسمون أنفسهم بـ "العقلانيين" ألاَّ يخنقوا هذا الشعور في أنفسهم، فلا أحد يستطيع أنْ يخنق الفطرة، وأَنْ يسكت صوتها.
ثُمَّ مَنْ قال: إنَّ الاخلاص للعقل يعني إنكار لما وراء العقل، وإنَّ الإيمان بما وراء العقل يعني إنتقاصاً للعقل، أو تقليلاً من شأنه.
فهذا الانقسام بين ما هو مشهود ومحسوس ومعقول، وما هو فوق هؤلاء جميعاً لا يعرفه الإسلام. فالاسلام دعوة وحدة وتوحد لا إثنينية فيه، فالعقل والقلب منبعان عظيمان من منابع وجدان المسلم، يستقي منهما معاً إثراءً لوجدانه، وإغناءً لقواه الفكرية والروحية.
لا أحد ينكر أنَّ رياح الإسلام بدأت تهبُّ بقوة، وهي تعصف اليوم بكل ما يقف في طريقها من صنميات وعبوديات لغير الله تعالى، وهي على وشك أن ترتفع لتبلغ قِمَمَ الإنسان وتتوقل هضاب روحه، وإنَّ بروقاً إيمانية كثيرة تلتمع اليوم في الرؤوس وهي توشك أن تحدث فيها صعقة مدوية تحيل المرءَ إلى لهب فكري يضيء أمداءً ظلامية غايةً في البعد.
وقلم الشيخ ما فتىء يثير رياح التغيير هذه، وهي قادمة لا شك في قدومها مهما طال الزمن.